مؤامرات تقسيم السودان- كينيا، الدعم السريع، ومستقبل مهدد

المؤلف: عزمي عبد الرازق09.17.2025
مؤامرات تقسيم السودان- كينيا، الدعم السريع، ومستقبل مهدد

كل يوم يمر، يزداد يقيننا بأن الحرب الضروس التي عصفت بالسودان منذ قرابة العامين لم تكن مجرد حادث عابر، أو انقلابًا عسكريًا اعتدنا عليه، بل هي مؤامرة حاكتها قوى خارجية خبيثة، وظلت تنفخ في لهيبها المستعر لتهدم مركز الدولة، وتحيل البلاد إلى رماد، ثم تعيد بناءها وتقسيمها وفقًا لأهواء غربية عتيقة، وتصورات استعمارية بالية.

كينيا: ذراع المصالح الغربية

كينيا، التي تبدو ظاهريًا وسيطًا نزيهًا في الصراع السوداني، بل أقرب إلى دعم ميليشيا الدعم السريع، ليست في الواقع سوى دولة مُسيَّرة، أو بالأحرى مقاول ينفذ أوامر عليا، ويقوم بدور المضيف لورشة إعادة رسم الخريطة الأفريقية، لتسهيل ابتلاعها من قبل الغرب، أو هي بالأحرى أحد المخالب التي تستخدمها الحكومات الأميركية المتعاقبة في المنطقة لتحقيق مآربها الخفية.

على الرغم من التحذيرات المتوالية من الدول العربية الشقيقة، ولوّاحة السودان بورقة المقاطعة التجارية، كالتوقف عن استيراد أجود أنواع الشاي والبن الكينيين، ومنع الخطوط الجوية الكينية من التحليق في الأجواء السودانية الشاسعة، أصرّ الرئيس الكيني ويليام روتو بإصرار عجيب على استضافة حكومته للميليشيا المتمردة الخارجة عن القانون، وتجميع بعض الوجوه السياسية الهزيلة المصنوعة بعناية للتوقيع على ما أُطلق عليه زورًا وبهتانًا (الميثاق التأسيسي)، الذي يدعو جهارًا نهارًا إلى إقامة دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية في السودان.

تناقضات صارخة تحت منصة التأسيس

المطلب الملح للدولة العلمانية يتبناه القائد عبدالعزيز الحلو، رئيس "الحركة الشعبية شمال"، الذي أُلحق بالاتفاق المشبوه مؤخرًا، وقد دأب -على الدوام- على زرع شرط "علمانية السودان أو تقرير مصير جبال النوبة" كاللغم الموقوت تحت طاولات التفاوض المتعددة، مما كان يتسبب في إفشالها وتفجيرها.

لكنه هذه المرة لم يواجه أي اعتراض يذكر، لا من رئيس حزب الأمة القومي فضل الله برمة ناصر، الوريث الشرعي للثورة المهدية بكل تجلياتها الدينية الراسخة، ولا من بعض حركات دارفور، التي تنتمي إلى مجتمعات محافظة، شديدة الاعتزاز بدينها الحنيف وثقافتها الإسلامية العريقة، أهل "التقابة" ومدارس تحفيظ القرآن الكريم.

فضلًا عن أن ذلك التحالف التأسيسي "اللقيط" تعيش أطرافه حالة مزرية من القطيعة الجماهيرية الكاملة، فكل ما يجمعهم هو البحث المحموم عن سلطة تعيد لهم اعتبارهم المفقود، وتحفظ لهم امتيازاتهم التي ولت إلى غير رجعة، فمعظم أعضاء النادي السياسي في بلادي، للأسف الشديد، أسرى لمصالحهم الشخصية الضيقة، وآخر ما يهمهم، إن كان يهمهم أصلاً، هو الوطن والمواطن.

كما أن معظم الوجوه الكالحة التي رقصت طربًا على أنغام حفل التأسيس البائس في نيروبي تنتمي إلى بقايا الدولة القديمة التي صنعها أبطال الاستقلال الأوائل، ويريد الدعم السريع بكل ما أوتي من قوة طمسها ودفنها إلى الأبد!

متغيرات عسكرية جليلة

ولذلك فإن هذا التحالف المشبوه محكوم عليه بالفشل الذريع، وقيامه سيؤسس لدورة جديدة ومؤلمة من الصراعات والنزاعات لا أكثر، لا سيما أن الأرض الصلبة تتناقص تدريجيًا أمام الطرف الرئيس فيه، وهو الدعم السريع، حيث هبّت القوات المسلحة السودانية الباسلة وحررت معظم المناطق التي خسرتها في بداية الحرب الغادرة، بل إن القصر الجمهوري، بكل رمزيته السياسية العميقة، تم تحييده بالكامل، وهو حاليًا تحت مرمى نيران قوات الجيش السوداني، التي سيطرت على أغلب الجسور الاستراتيجية والنقاط الحاكمة في الخرطوم، ما يعني أننا أمام متغيرات عسكرية هائلة ستغير وجه الحرب.

حتى ولايات دارفور لن تكون خاضعة لسيطرة قوات التمرد المنهزمة، ولذلك فإن المشهد برمته سوف يتبدل جذريًا نتيجة لتلك التطورات المتسارعة.

وهنا، أو بالأصح، فإن دخول القائد عبدالعزيز الحلو في هذا التحالف المشبوه تم بعد مفاوضات مضنية، مقابل أن يمنحهم مدينة كاودا في أقصى جنوب كردفان، لتصبح عاصمة لهم، لأن مدينة الفاشر لا تزال تقاوم ببسالة، ولذلك اضطرت عائلة دقلو لبذل الكثير من التنازلات المهينة، على رأسها فكرة دولة "العطاوة الكبرى"، الحُلم الزائف الذي ضحى من أجله مئات الشباب المغرر بهم من عرب دارفور، والعقبة الكؤود أيضًا أنّ أبناء جبال النوبة الذين قبلوا على مضض برئاسة الحلو لحركتهم، واختطافها لصالح أجندة خارجية خبيثة، لن يسمحوا أبدًا بالسطو على مناطقهم التاريخية لصالح عدوهم اللدود، مليشيا الجنجويد سيئة السمعة، فكاودا هي المدينة العصية على الترويض، ما يعني – إن لم تكن تلك مجازفة بالظن- إطاحة الحلو نفسه من منصبه وتنصيب نائبه جقود مكوار، أو رئيس أركان الجيش الشعبي عزت كوكو بديلًا له، لتتبخر أحلام قاعة جومو كينياتا، مرة واحدة وإلى الأبد.

لماذا علينا أن نقلق كل هذا القلق؟

مع ذلك يجب علينا أن نقلق بشدة من محاولة تأسيس حكومة بديلة، حتى وإن كانت مجرد حكومة منفى هزيلة، لأن وضعية السودان الحالية هشة للغاية، ولا تحتمل مشادة بين المركز والهامش، كما أنه يمكن أن تتولد من ذات الفكرة السوداوية المطالبة بدولة مستقلة في دارفور، فالتربة الحالية للأسف مهيأة لأي بذرة انفصالية خبيثة، قد تجد من يسقيها بماء الفتنة لتنمو وتترعرع.

وربما كان الهدف الخفي الآخر هو إيجاد موطئ قدم لحكومة تبحث يائسة عن صيغة شرعية واهية تحصل بها على طائرات حربية حديثة وأسلحة ثقيلة متطورة، خصوصًا أن الذي حرّض الدعم السريع على التمرد المسلح، وابتلاع الدولة بأكملها، وقام بتسخير كل شيء له ليكسب هذه الحرب القذرة، لن يتردد أبدًا في تمويل صفقات جديدة لشراء المزيد من الأسلحة الفتاكة، والضغط على بعض الدول الضعيفة للاعتراف بتلك الحكومة الافتراضية المزعومة.

قد يبدو من الطبيعي أن تداعيات الحرب المريرة هي التي صنعت هذه اللحظة الحرجة والدقيقة من تاريخ السودان المأساوي، وما نتج عنها من مخاض عسير أفضى للاستقطاب الجهوي والإثني البغيض، ومع ذلك من غير المستبعد على الإطلاق أن تلك السيناريوهات المخيفة يقصد منها ممارسة المزيد من الضغط الهائل على الجيش الوطني ليذهب مرغمًا إلى التفاوض المذل، ويوقع على مشروع الخضوع والاستسلام الكامل لمن يقف وراء الدعم السريع.

عاصفة هوجاء من التحديات

بنظرة أعمق وأكثر شمولية فإن كل هذه المشاهد تبدو مصطنعة ومفبركة بعناية، ويتعين علينا أن نتعامل معها بنوع من التحليل السياسي والعسكري المتعمق، وقراءة متأنية لما وراء السطور المبطنة، وهي مشاهد بالضرورة وليدة الهزائم المتتالية التي تعرضت لها قوات آل دقلو في ساحة المعركة.

إذ كيف بدأت هذه الأزمة الكارثية وتطورت على مدى عامين كاملين؟ كانت عبارة عن حرب مباغتة غير متوقعة وضعت قيادة الجيش الشجاعة تحت الحصار العنيف، ثم توسعت رقعتها الجغرافية بسرعة رهيبة وابتلعت النيران ولايات الوسط الخصبة، والخرطوم والجزيرة وسنار، وتحت ذلك الضغط الهائل اضطر الجيش مضطرًا للذهاب إلى التفاوض.

كان حميدتي وقتها يرفع لافتة واحدة واضحة تطالب البرهان بالاستسلام التام، موقنًا بالنصر الساحق. لكن الأمور تغيرت بوتيرة سريعة ومذهلة، وانتقلت القوات المسلحة والقوى المساندة لها من موقف الدفاع السلبي إلى الهجوم الكاسح، وانتظمت في عمليات تحضير واسعة لاجتياح الخرطوم، وقام الجيش فعليًا بربط ولايات الوسط ببعضها البعض، وتعزيز السيطرة المطلقة على الأجواء، وتضييق الخناق المحكم على بقايا المليشيا المتمردة في ولايات النيل الأبيض وكردفان، ومن الراجح أن يعلن البرهان قريبًا -خلال أيام معدودات- خطاب النصر التاريخي من داخل القصر الرئاسي الشامخ، ذلك المبنى التاريخي السيادي، الذي لم يتمكن الدعم السريع أبدًا من إعلان حكومته المزعومة فيه، لكن هذا أيضًا ليس كافيًا لتجنب إنتاج النموذجين: الليبي واليمني المأساويين في التقسيم، فبلادنا مهددة بالفعل بعاصفة هوجاء من التحديات الوجودية العميقة.

الذهاب الفوري إلى الانتخابات

من المهم والضروري اجتراح حلول عملية وبناءة لردم فجوة الفراغ الدستوري والسياسي الحالي الخطير، والمسارعة بإعلان حكومة مدنية انتقالية رشيدة تقودها شخصية وطنية بارزة لديها القدرة الفائقة على اختراق الصعاب الجمة، وأن يتفرغ الجيش الباسل لمعركة الحفاظ على وحدة البلاد الغالية، وحراسة الفترة الانتقالية بحزم وقوة حتى قيام الانتخابات النزيهة، لتشارك فيها كل القوى السياسية الوطنية، دون إقصاء أو تهميش، وأن تقبل كذلك عن طيب خاطر بخيار الشعب السيد، فالذي يريدُ السلطة فعلًا عليه أن يستوفي حقها الديمقراطي المشروع، وأن يقنع الجماهير العريضة بما يمتلكه من أفكار مبتكرة وبرامج طموحة تخاطب أحلامهم وتطلعاتهم.

وقبل كل شيء على الجميع أن يفهموا جيدًا أننا دولة حرة ذات سيادة كاملة، وأن مصالحنا الوطنية الحيوية تتطلب التضحية بالغالي والنفيس، ولا مساومة فيها أبدًا، ولا يمكن أبدًا أن نتسامح أو نتغاضى مع من يريد أن يعبث بخارطة السودان، فهذا الوطن الكبير المكتنز بالموارد والثروات ليس ملكية خاصة، ليكونَ معروضًا للبيع والتقسيم على موائد اللئام.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة